الأعمـى

 

على الرغم من خلافنا المستمر والذي يصل حد العراكِ والتراشقِ بالكلمات الجارحة ، فإننا ومنذ ثلاثين عاماً نقيم معاً في غرفةٍ واحدة . أنا وصديقي الأعمى الذي يثير غضبي بشكواه وأوامره التي لا تنتهي ونزواته الغريبة ، يحرّضُ الناس ضدي ويؤلّبهمبالشتم والتجديف ، وحينما يثأرون ليقينهم برجمهِ يختفي ورائي كطفلِ يلتجئ إلى حضن أمه هرباً من العقاب لذا فقد اتـفـقـنا على أن يكون لكلٍ منّـا عالمهُ الخاص ، إن رغبتُ في مصاحبتهِ اختفى وإنْ رغبَ في مصاحبتي رغبتُ عنهُ وتعاليتُ عليه ، ولكن كلّ منّـا يعرفُ نقاطَ ضعفِ الآخر وحينما يشتد الخصام بيننا تـنـفـلـقُ رمّانةُ الأحقاد عن سيلٍ من التشهير والكراهية ، وفي لحظات المساومة يتخلى كل منّـا عن صاحبه دونما ترددٍ بحجةِ سوادِ نـيّـتهِ ، لكننا نعود إلى سابق عهدنا بعد أن يدرك كل منّـا استحالة الاستغناء عن الآخر وكأننا نتسلى بالمشاكسة والعراك .

كل ليلةٍ وفي الهزيع الممتلئ أحلاماً يوقظني بانسلالهِ الحذرِ فأخاف عليه ، ينسلّ كرغبةٍ عاقلة من جسد متوحش ، يجوب الغرفة تائهاً وحينما لا يلمسُ من السماء غير زرقتها يعود فـيـنـدسّ في جسدي ثانيةً ، يندسّ كطعنةٍ ويبكي مثل طفلٍ يتيم .

منذ ثلاثين عاماً ونحن نقيم معاً ، أحبّـهُ وأعرفهُ جيداً إلا أنه في بعض الأحيان يثير شكوكي في عماه لاسيما حينما يتحدثُ عن جمالِ الطبيعة والنساء أو الألوان في اللوحات المعلقة على جدران غرفتي وكأنه يـتـلـمـسـهـا ببصيرتهِ . 

استيقظتُ ذات فجرٍ على صوت الآذان فلم أجد صاحبي فنهضتُ أبحثُ عنه خائـفـاً عليه من فرطِ ثـقـتـهِ بنفسه ، كان واقفاً في الشرفة رافعاً رأسه إلى السماء متمتماً بكلماتٍ لم أفهمها ، وحينما شعرَ بوجودي قـربه قطع صلاتهُ وقال لي وهو يحركُ ستائرَ نافـذتيه الـمـطـفَـأتـيـن:

" أنظرْ "

تطلعتُ إلى حيث أشارتْ إصبعهُ فلم أرَ غير الظلام ، سألته مماحكاً:

  " ماذا ترى !؟ "

لم يأبه لمزاحي الـفـظّ وقال بصوتٍ حزين :

" أرى مئذنةً أطولَ من قـامـةِ اليقين تـنـتـصـبُ بين بيوت الفقراء تُـنـذِرُ الناسَ بالـثـبـور والناسَأفواجاً أفواجاً ينحدرون من نعاسهم باتجاه الصوت "

تركتهُ واقـفـاً في الشرفةِ وعدتُ إلى سريري مسرعاً لئلا يطيرَ النعاسُ من عيني ، ساخراً من رصانتهِ المفاجئة وكنتُ أتمنى لو أنه بجنونهِ هذا يـنـفّـذُ تهديدهُ المستمر بالانتحار لينقذني وينقذ نفسهولنضع حداً لهذه المهزلة التي دامت ثلاثين عاماً .

استيقظتُ ظُهراً كعادتي فلم أجدْهُ ، غير أني وجدتُ قصاصةَ ورقٍ تركها على سريره ، تـناولتها بيدٍ مرتجفةٍ نادماً على أمنيتي الشيطانية، ورحتُ أقـرأ : " 

الـلـيـلُ حـرابٌ أو قـضـبـانْ  

والـشـاعـرُ أعـمـى

يـتـلـمـسُ دربـاً فـي الروحِ

لـيـوقـظَ قـبـلَ الـفـجـرِ

الربّ النائمَ في الإنسان "

وفي أسفل الورقة كتبَ :

" وداعاً يا ظلي"

 

9 / 8 / 1997  دمشق

 

>>