الخيـّـام

 

قـيل لي إنه لا يسمـح لأحدٍ بزيارتهِ فـهـو مشغولٌ بأفلاكهِ وقـيل هـمـساً بجواريه ، ولـكن    إلحاحي في طلب الزيارة جعل خادمهُ يرقّ للهفتي الطفولية لاسيما بعد أن عرف بأني قطعتُ آلاف الأميال حتى وصلتُ إلى نيسابور ، تعرضتُ خلالها إلى أهوال لا توصف فقد اعتـقـلـنـي جندُ حسن الصباح واغتصبني الأتراك وطاردني رجال المخابرات في شوارع بغداد وكنتُ أسمعُ قهقهات قائد الطائرة السمتية الأمريكي وهو يطلق صواريخه بين ساقيّ الهاربتين .

لم أرَ جاريةً أو إبريق خمر كما حسبتُ ، بل رأيتُ شيخاً جليلاً تحيط رأسه هالةٌ بنفسجية أو هكذا تراءى لي . جلستُ قبالته على سجادة كاشانية قديمة وفي داخلي يتلوى ماردُ الفضولوكنتُ مبتهجاً وأنا أتطلع إلى وجههِ الغارق في ضياء التأمل .

فتحَ عينيه ببطء مردداً كلماتٍ فارسية لم أفقه منها غير كلمة ( خُـدا).

" من أين أتيت ؟"

سألني بلطفٍ محاولاً تبديد عني عناء السفر الطويل فأجبتُ بارتباك : 

" لا أدري " من الأفضل أن لا تدري فالمكان أسرٌ للروح وغاية الروح الإفلات من قبضة المكان""

سررتُ لهذه الحكمة هازاً رأسي علامة للاستيعاب .

دخلت جاريةٌ مجللة بالسواد ، وضعتْ بيننا سلّة في داخلها جمراتٌ كبيرة يتطاير منها شررٌ ذهبي ، ثم غادرت المكان دون أن ترفع رأسها عن الأرض .                                 

اعتدل في جلسته ثم قال بوقارٍ وود :

" إقرأ لي مما كتبت "

حاولتُ النهوض إلا أنه منعني عن ذلك بإشارة من يدهِ، فرحتُ أقرأ بصوتٍ مرتجفٍ :

خـيـّامُ حـتـى الـخـمـرُ مـا عـادتْ مـلاذا

      الـمـوتُ قـبـل الـسـكـرِ بـاغـتـنـا فـلـم نـسـألْ لـمـاذا

تطلعتُ إلى عـينيه بجرأةٍ كي أقـرأ فـيهما تأثـيـر ما قـرأتُ إلا أن وجهه كان خالياً من أية علامة تدل على إعجابٍ أو إنكار . توقفتُ قليلاً محاولاً تركيز إرادتي ، وقبل أن أنطق بالبيت الثاني أوقفني بإشارةٍ من يده ، وبعد لحظات من الصمت رفع رأسه متطلعاً إلي بعيني فلكيّ اعتادتا على قراءةِ طوالع النجوم، ثم قال بحزنٍ محركاً يده بنشوة :  رفـع الـنـديـمُ الـكـأسَ مـنـتـشـيـاً وغـنّـى

سـقــراطُ   لـن يـسـقــيـكَ ربُّـكَ غـيـر هـذا

نطّ طفلُ الفرح في روحي وأحسَّ الخيام بذلك فصفقَ منتشياً متطلعاً إلى الستارة فأزيحتْ وامتلأت الصالة بجوارٍ حسانٍ يحملن عيداناً وصنوجاً .  جلستْ جارية شقراء إلى شمالي ضاغطة كتفي بصدرها الكاعب العاري ثم راحتْ تحل أزرارَ قميصي مداعبةً شعر صدري . ملأ الخيام كأساً بشرابٍ لم أر مثله من قبل ، قدمها إلي وأخذ أخرى ، بينما كانت أجساد الراقصات تضيءُ الصالة بعريها وقد ألـفـيـتُ نفسي عارياً ويد الجارية تداعب بحنوٍ قضيبي المنتعظ .

قلتُ بعد أن دبّ دبيبُ الخمرة وأنهارَ جدارُ الاحتراز:

" أخمرة أصفهانية ؟ أم شراب سمرقندي ؟"

فأطلق الخيامُ ضحكةً تردد صداها في أروقة القصر ثم خاطبني مؤنباً بنزقٍ:

ألم تـقـلْ

  خـيـّـامُ حـتـى الـخـمـر مـا عـادتْ مـلاذا ؟

  " بـلـى "

أجبتُ بفرحٍ وأنا أسمعه يرددُ شعري بإعجاب ، إلا أن هاجساً غريباً بَـتـَرَ فرحي حينما سألني باصرارٍ وجد :                                              ألم أقـلْ

سـقـراطُ لـن يـسـقـيـكَ ربـُّـكَ غـيـر هـذا ؟

" بـلـى "

أجبتُ وقد وسوسَ بي شعور بأني هالكٌ لا محالة وأني جئتُ ساعياً إلى حتفي بمحض إرادتي فـشـعـرتُ بتنملٍ في  ساقيّ وقد تصاعد فيهما خدرُ الموت من أثر السم الذي راح يجري في دمي . حاولتُ أن أبدي شجاعةً متشاغلاً عن الموت بالمتعةِ التي تصبها الجاريةُ على جسدي وقد وضعتْ رأسها في حجري تمتص الشهوة بمهارةِ حوريةٍ عاهرة.                          

ملأتُ كأساً من الشراب نفسه وقدمته إلى الخيام الذي تباطأ في ارتشافهِ بينما شربتُ كأسي بدفعةٍ واحدة متطلعاً إليه بتحدٍ جعلهُ يعبّ بقايا كأسه كأنه يقبل التحدي والمبارزة. رفع يده
فـتـوقـفـتِ الجواري عن العزف والغناء ثم قـال مـحـدقـاً إلي بعينين صارمتين لا تخلوان من حـقـدٍ مستَـفــز :

" أجـزْ "

قلتُ :  هات

 قالَ :

مـن أي مـنـحـدرٍ سـتـصـعـدُ لـلـذُرى

يـا نـهـرُ قـاعـُكَ كـبّـلـتـهُ يـدُ الـغـرقْ 

أمسكتُ رأس الجارية من شعرها ودفعتهُ عن حجري بحنقٍ وانطلق صوتي مدوياً : إذْ فـي جـنـانِ الـخـلـدِ لـو تـجـري تـرى

أم الغريقِ ترومُ رأسكَ في طبق

قلتُ متحدياً ، وبعجرفةٍ واستبداد أمسكتُ الجارية من ناصيتها وأعدتُ رأسها إلى حجري . تجمدتْ تضاريسُ وجهه حتى أشعرني بأني تجاوزتُ حدودَ اللياقة وسلوك الضيف والتلميذ . طلبَ مني أن أعيد ما ارتجلته فأعدتُ . وضع رأسه بين كفيه ثم أنفجر بنشيجٍ مرعبٍ فـسـادَ الوجومُ على وجوه الجواري وبدأن بالانسحاب على أطراف أصابعهن . توقفتِ الجارية الشقراء ورفعتْ رأسها عن حجري فأعدته بقسوةٍ وقد أوشكتُ على القذف إلا أنها تمنعتْ بنظرات توسلٍ ، أعادت الشالَ على صدرها وهـمّـتْ بالنهوض فنظرتُ إليها متسائلاً بصمتٍ عن السر فأجابت هامسةً :

حينما يبكي الخيام تغادر العفةُ صومعتها ويهجر العهرُ المواخيرَ حيث لم يبقَ للوجود من صفةٍ غير عدميتهِ .

أمسِ وفي إحدى مكتباتِ خيابان ناصر خسرو عثرتُ على نسخةٍ قديمةٍ من الرباعيات ،  اشتريتها وأسرعتُ إلى الفندق  أبحثُ  عن الرباعيتين اللتين اشتركنا في تأليفهما.

لم أجدهما طبعاً .

 

30/8/1997  بودابست

 

>>