أَهذا كلُّ ما تبقّى من "بـزَّون"..؟!

 سيرةٌ ذاتية أم سيرةُ جيل؟

علي ناصر كنانة*

 

انتعشتْ خلال العقدين الأخيرين كتابة السير الذاتية في الآداب العالمية، واتخذّتْ منحى جديداً ينبع ربّما من سببين، أولهما: لأنّ كتّابها كانوا أكثر صدقاً مع أنفسهم ومع القراء. ويبدو أنّ الإنسان الحديث أكثر شجاعة في مواجهة الوقوف أمام المرآة، وأكثر ميلاً إلى المكاشفة في علاقته بالآخر. والآخر هنا هو المتلقّي، الذي لم يعد معزولاً ومقطوعاً عن العالم وبالتالي أضحى من الصعب الاستحواذ على اهتمامه من خلال حكايات خرافية!. وثانياً لم تعد كتابة السيرة الذاتية مقتصرة على المبدعين ونجوم المجتمع، بل ظهرت على السطح سيرٌ ملفتة للنظر كتبَها أشخاص عاديون، ربّما كان من أشهرها سيرة ذاتية كتبتْها بائعةُ هوى كندية عنَّ لها أن تكتب (تاريخها!) وتتحدث عن معاناتها الإنسانية في هذا (الميدان!) بعد أن كفّتْ عن المتاجرة بجسدها.

وقد حفلَ هذا المنحى الجديد باعترافٍ حقيقي وصدق بالغ في رسم صورة الذات دونما رتوش، الأمر الذي خلقَ – كما أرى – حرجاً شديداً لكتّاب السير الذاتية من المشاهير والمبدعين عموماً، والذين عمدوا في كتابة سيرهم إلى تقديم صورة نموذجية وساحرة ومثيرة لأنفسهم، يساعدهم على ذلك دهاء ومهارة الكاتب. (إنها الصورة التي يريد منتج الخطاب أن يثبّتها في ذهن المتلقّي لا على أنها صورة ابتدعها على سبيل التوهّم ومن قبيل التخيّل والاستيهام، بل باعتبارها تمثّل كنه الكاتب وتجسّد هويته وشخصه)، كما يقول الكاتب التونسي محمد لطفي اليوسفي في دراسة قيّمة بعنوان (مرايا نرسيس - الكاتب العربي وطبائع الاستبداد) تناول فيها نرجسية كبار الكتّاب التي بلغتْ بهم حدَّ التمثّل بالأنبياء، (ذلك أن الصورة الحاصلة للـ"أنا" عن نفسها تكاد تكون صورة واحدة محاطة بهالة رسوليّة تتراءى منعكسةً على مرايا متناظرة). ويخلص اليوسفي من تحليله – بعد تناوله أعلاماً في الأدب العربي مثل عبد الرحمن بدوي، أبي القاسم الشابي، نزار قباني، أدونيس وفدوى طوقان وسواهم إلى القول: (لكأنَّ طبائع الاستبداد المترسّبة في أصقاع الذات العربيّة، هذه الطبائع البغيضة الموروثة عن أحقاب من القهر والبطش والدم المراق، كثيرا ما تستبدّ بالمؤلّف فيشرع في ممارسة سطوته على اللغة، وعلى الكلمات، وعلى الجنس الأدبي، فيما هو يمارس أعتى أنواع القهر والسطوة على متلقّيه المفترض).

*

أمّا أجيال الفجيعة (السبعينيون، الثمانينيون والتسعينيون العرب، والعراقيون على وجه الخصوص – إذا صحّ التجييل) التي هربتْ إلى فضاءات الحرية مثخنةً بجراح الحروب والهزائم والحصارات والقمع فإنها أجيالٌ تنتمي إلىهذا المنحى الجديد في كتابة السيرة الذاتية حتى لو كلفّها الصدق ثمناً معنوياً باهضاً. فلم يزعم هؤلاء الكتّاب سوى بعض الشجاعة في مواجهة الفجيعة ولا يدعّون النبوة. يدلقون التفاصيل بكل قسوتها على بياض الورق ولا يبتدعون تاريخاً شخصياً زائفاً.

وأية متابعة لكتب السير الذاتية التي حرّرها هؤلاء الشباب (الذين شاخوا مبكّراً) تلحظ انعطافاً أسلوبياً في هذا المجال التعبيري. فقد حرصوا على أن لا تكون سيرهم ميلاً نرجسياً لتمجيد الذات، بل اشتغالاً إبداعياً على كتابة سيرة جيل بأكمله، لا تعود الذات فيها سوى بؤرة ضرورية من الناحية الفنية. ولعلّ بالإمكان القول إن مثل هذه السير كانت بمثابة إرخة لتاريخ شعب في مرحلة عصيبة اندفعت خلالها الدولة في إعادة كتابة التاريخ كما يروق لها، وانطمرَ الشهود تحت ركام الحروب، أو غُيِّبوا في المنافي أو في السجون، أو انكفأوا على خيباتهم.

*

في عام 1998 تنامى في داخلي أن أكتب سيرتي الذاتية باللغة السويدية، ومنذ شرعتُ بها لم تستجب لتكون سيرة ذاتية وإنما سيرة جيل. وبعد أن أنجزتُ كتابة تسعين صفحة وجدتُ نفسي غير قادر على الاستمرار، لقد كان الحزن أكبر من أن يُحرّر على ورق. فقد فلتَ الزمام من الذات وتحوّل كل شيء ليس إلى جيل فحسب بل إلى عراقٍ أكبر من اللغة. فلم أفلح – بعد تسعين صفحة – بالخروج من مرحلة الطفولة، لأنها لم تكن طفولتي بل طفولة جيل، وطفولة مرحلةٍ جعلَنا حاضرُها – بعد خمسةٍ وأربعين عاماً – نعضُّ النواجذَ حسرةً على بهاءِ مرحلةِ المخاض.

مؤخراً.. صدرَ كتاب سيرة ذاتية بعنوان (أصغي إلى رمادي) للشاعر العراقي حميد العقابي. وقد وجدتُ في هذه السيرة عملاً يندرج في سياق المنحى الجديد لكتابة السيرة الذاتية، ويمثّل صفعة لأولئك الذين ينسبون لأنفسهم طفولات ملكية وبطولات مزعومة وألمعيّلت ملفّقة.

*

حميد العقابي، شاعر عراقي )دنمركي( متميّز يقيم في ثلج المنفى مثقلاً بحصّتِهِ من هجير المأساة. بعد سبع مجموعات شعرية قرّر بجرأة أن يصغي إلى رماده.

منذ الوهلة الأولى، منذ العنوان: (أصغي إلى رمادي) يصدمُنا الكاتب. فالرماد هو مَن يكتب هذه السيرة دون خداع ولا زيف، فلم يتبقَّ سوى الرماد بكل صرخانيتهِ المكتومة. وذاتيّة السيرة هنا إنما هي ذاتيّة الرماد. رمادٌ عراقي يهجع - بلا فينيقية مزعومة - في جليد اسكندنافي يغفو في خدرِ عزلتهِ. 

لم أقرأ سيرة ذاتية (عربية) بالصدق ذاته الذي ارتكبَهُ حميد العقابي. ومَن يجرؤ على الصدق في زمنٍ كهذا؟! حيث أمسى الصدقُ ارتكابةَ المجنون.

في فصل (بزّون) وهو اسم أبي الكاتب – استباحَ العقابي منطقةً مغلقةً (بمثابة تابو) لا يجرؤ المرء عادةً على فتحها إلاّ لنفسهِ، بَيْدَ أنه اختار أن يكون صادقاً صدقاً إبداعياً مفجعاً: الإتيان بالصورة كما هي: حيث تربّى في (كنف) والدين غير متجانسين البتة، رسمَ الكاتبُ لكلٍّ منهما بورتريهاً واقعياً:

(لم أره يوماً قوياً بل هكذا كانت صورته دائماً كما أراها اليوم، قسماته تدلّ على القوة إلاّ أنه رجل منخور، ضعيف الإرادة مستكين إلى قدره، طموحه لا يتعدّى رغباته الآنية في الأكل والنوم، يتوسّل إلى الله ويطيل دعاءه في الصلاة باكياً إذا أصيب بالأنفلونزا /.../ وعلى الرغم من بلادته إلاّ إنه كان سريع التأثـّر وبإمكان أي شخص أن يستفزّه وإذا غضبَ فأنه لا يشتم أو يضرب أحداً بل ينزع طاقيته بهدوء ثم ينهال على نفسه بالضرب).

ولا يشعر حميد من ذلك بأي التباس، فالصورة هي ذاتها من الطفولة إلى الآن:

(لم يكن أبي يشكّل عندي رمزاً للقوة والتسلّط ولكني كنتُ أكرههُ وكنتُ أتلذّذ بقتله بأحلام يقظتي حتى أني لم أحضر وفاته وقد كنتُ وقتها أدرس ببغداد، سمعتُ بالخبر فتجاهلته بل إني فرحتُ في لحظة سماعي الخبر واستمرَّ فرحي فترة زمنية لا أستطيع حساب مدتها إن كانت ثواني أم سنين لكن فرحي بوفاته انقلبَ تأنيباً قاسياً مازلتُ اشعر به حتى هذه اللحظة).

لا يشعر حميد بتأنيب الضمير لقسوة موقفه من والده وإنما لأنه ابتهجَ بوفاته. وربما يريد الكاتب أن يوحي لنا بأنه لم يشعر بتأنيب الضمير لأن المتوفّى والده ولكن الموروث هو ما استيقظَ فيه من أنّ ( لا شماتةَ على ميت)، أيّاً كان هذا الميت. وقد يندم حميد بسببٍ من مشاعره تجاه أبيه وقد يبكي في وقت آخر، ولكن ما يعنينا نصيّاً هنا هو هذا الصدق وهذه الجرأة في فصل (بزون).

وبالمقابل تشمخ في ذاكرة حميد أمٌ قوية حدّ القسوة. رفضتْ زيارة أخيها وهو يحتضر وقسَمتْ أن لا تراه حتى لو كانت رؤيتهُ سبباً لدخول الجنة. وحينما أصرّ حميد على معرفة سبب كراهية أمه لأخيها قالت: (لأنه زوجّني من أبيك رغماً عني).

ويستمر حميد في ممارسة الصدق في صفحات الكتاب الأخرى. ففي فصل (المسبحة) يتحدث الكاتب عن المرأة عموماً بشكل لا أظنّهُ يرضي امرأةً.

*

لقد حرصتُ في هذه القراءة أن أتناول مظهر الخصوصية الجوهري في هذه السيرة، وأعني الصدق غير المسبوق، وهو فتح لم يجرؤ عليه كاتب عربي (وخصوصاً عراقي!).

ففي كتابه هذا (أصغي إلى رمادي) تفوّقَ حميد العقابي على نفسهِ وعلينا جميعاً حينَ قرنَ السيرة الذاتية بالصدق المطلق (التعرّي)، لنكتشف بأن كتابة السيرة إذا لم تكن كذلك تمسي مجرّد تلفيق تفوح منه رائحة النرجسية.

*

وسوى ذلك، فقد تضمنَّ الكتاب نصوصاً مستقّلة نأى بها الكاتب عن السردية التقليدية (الحكائية)، وقد ذُيِّلَ كل نص بتاريخ كتابته، حيث تداخلت الأزمنة والأمكنة في تلقائية نابعة من انثيالات الذاكرة. وبالرغم من انتقائية السيرة غيرَ أن حميد نجحَ في استدعاء الجوهري والعميق والإنساني ليذهب بالذاتي إلى آفاق إنسانية.

وفي بعض الفصول اكتفى الكاتب بتدوين نصوص من شعره. فما لا يريد الإفاضة فيه نثراً ارتأى أن يتركه مغلقاً في صندوق اللغز الشعري. وقد بدَتْ القصائد وكأنها استراحات للقارئ من عناء النثر السردي.

إن السيرة الذاتية لحميد العقابي (أصغي إلى رمادي) لم تكن ذاتيةً بل صفحات من حياة شعب شتَّ به الجور في مختلف أصقاع العالم، كان نصيب حميد منها: العراق، إيران، سوريا، والدنمارك. إنها صورة مؤثِرّة لحياة عراقية. صورة من العراق دون كذب إعلامي ودون رائحة نفط ودون شعارات حزبية.

*

يُروى إن حميد العقابي عندما وصل الدنمارك وتخلّص من لعنة اسم والده (بزّون – وهي كلمة عراقية تعني القط، عرضّته للسخرية من زملائه في صباه ولمختلف المفارقات في شبابه)، كتبَ رسالةً إلى صديقه في دمشق (وهو كاتب عراقي أيضاً) وذيلَّ رسالته هكذا (حميد ب العقابي)، فردّ عليه صديقة بالتساؤل: (ها.. حميّد! أهذا كلُّ ما تبقّى من بزّون؟!).

وأنا أقول في النهاية: إن ما تبقّى من (بزّون) هو حميد العقابي: الشاعر والكاتب والإنسان الشفّاف. ذلك الطفل الذي (جاءَ إلى الحياة بالخطأ) كما قال عنه الأب ذات يوم ولم يغفر الإبن لأبيه ذلك القول. رحمَ الله العم بزون لأنه أنجبَ هذا الحميد.

*

 * شاعر وكاتب عراقي.

 جريدة الراية القطرية- 4 / 3 / 2003

>>