آيــة الكـرســي

 

قبل أن أدخل المقهى اصطدمتُ بصبيّةٍ صغيرةٍ هي أقرب إلى كتلةِ أوساخ منها إلى كائنٍ ملائكي ، تمسكتْ بساقيَّ وراحت تقبل ركبتيّ بتملقِ مَنْ تمرّس مهنةَ التسول ، دستْ في كفي ورقةً صغيرة فأعطيتها ورقةً نقدية ودخلت المقهى . جلستُ متطلعاً إلى الشارع الضاج بزعيقِ السيارات ولغط المارة . أخرجتُ الورقة الصغيرة ورحتُ أقرأ " الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ..... " ، إنه ابتكارٌ جديد للتسول ، ربما ليس جديداً وانما عزلـتي الطويلة في العالم الأول جعلتني جاهلاً بما يدور في عالمنا الثالث . ولأن الانتظار صعب خاصة على من ينتظر فتاةً لم يضمن مجيئها ، فتاة تعرفتُ عليها أمسِ في الطائرة التي أقلتني من العالم الأول إلى هنا عبر العالم الثاني ولأني لستُ مغرماً بها أو كصيادٍ هاوٍ فلم يكن مجيئها ذا شأن  ولـكـن لابد من فكرة يدوزنُ الإنسانُ بها الانـتـظـار . قـلـبـتُ الورقة وكتبتُ عبارة ( العالم الثالث ) ووضعتُ خطاً تحتها .                                                

1- الـفـقـر

 

ورحتُ أحلم بثورةٍ جديدة بلا ماضٍ ولا ذاكرة وتخيلتها كنبتةٍ تمدُّ جذورها في القضاء لا يدرك ثمارها الا الضالعون في الحلم فالأرض مدنسةٌ بالدماء والحشرات ، والتأريخ كما يقول فولتير ( سجلٌ من الجرائم وسوء الحظ ) ، فـلـتـكـن ثورةً خارج سياق التأريخ ، ثورةَ عشاقٍ ، ثورةَ شعراء ، ثورةَ حمقى .....                                                                       

2- الحرية

 

قطع النادلٌ لحظات شرودي حينما سألني عن طلباتي فقلتُ :

        " دم ، أعني كأس حرية "

فارتدّ النادل متطلعاً إلي بذهول فتداركتُ الأمر بضحكةٍ بلهاءَ فـفـهـمَ الأمر مزحةً من رجلٍ طريف ولكن الرجل الجالس قربي ظل يحدّق إلي بفضول محاولاً التهام الورقة ، ابتسمتُ له بتملقٍ فازداد فضوله . شطبت الكلمة مردداً مع نفسي :                                       

                   " بلا أكل هوا ، بلا دوخة راس "

 

كانت الصبيّةُ لاتزال تقف في باب المقهى تصطدم بالكتل البشرية التي لم تأبه لتوسلاتها وكان الشارع لايزال ضاجاً بزعيق السيارات وقد مضتْ عشر دقائق على الموعد ولم تأتِ فتاتي ، أشحتُ بوجهي عن الرجل المتلصص إلى الجهة الثانية فرأيتُ فتاةً تجلس وحيدةً في ركن المقهى ، تُـدخل طرفَ خرطومِ  النارجيلة في فمها وتسحبه ببطء نافثةً الدخان دوائرَ في سماء المقهى بـغـيـبـوبـةِ مـَنْ شارفـتْ على الذروة .

 

3- الشبق

 

لابد من ثورةٍ جنسية تـقـوّض كل المفاهيم القديمة ، تخرج فيها العفّةُ إلى الشارع عاريةً لتعلن على الملأ كذب عذريتها ، وهنا تذكرتُ الموعد وقررتُ البدء بالتحضير لهذه الثورة مع فتاتي المنتظرة فسأحاولُ إقناعها بالذهاب معي إلى الفندق لنحتفل معاً بساعةِ الصفر ، ولكن فتاتي لم تأتِ وقد مرتْ ساعة على الموعد المقرر ، لم أبه لذلك فأنا مشغول الآن بكتابةِ البيان الأول للثورةِ التي ستعلن نفسها خارجَ سياق التأريخ .                                               

مر جنديان كنديان من  جنود الهيئة الدولية التي تشرف على خطة تطبيق قرار وقف إطلاق النار فتذكرتُ بنداً جديداً من بنود الثورة :

                                                  

3 - السلام                                                                                

   

تـشـبـثـتِ الصبيةُ بهما مـقـبـِّلـةً ساقيهما ، ركلها أحدهما بامتعاضٍ فـسـقـطـتْ على كتف الرصيف ، توقفَ بعض المارة وخرج آخرون من المحلات وعلى وجوههم نظرات الاستهجان والاستفزاز فتوقف الجنديان وحملَ أحدهما الصبية بحنوٍ مفتعل ، ولكي يمحو آثارَ فـعـلـتـهِ اشترى من الصبية ورقةً دافعاً لها ورقةً نقدية من فئة الخمسين تـلـقـفـتها الصبيّة فرحةً فارتسمتْ ابتسامات الرضا والامتنان ( وربما الحسد ) على وجوه الواقفين . سار الجنديان وسط الزحام بكبرياء كزرقةِ بيريتيهما ، وبعد بضع خطوات  أحدهما شيئاً في سلّة المهملات .

وضعتُ برنامجَ ثورتي في جيب بنطالي الجينز ونهضتُ خائباً من تحقيق ثوراتي ،ففتاتي لن تأتي وفات الأوان. أخرجتُ الورقةَ من سلّة المهملات ودسستها في شقّ في الجدار كما كان يفعل أبي حينما يجد قطعةَ خبزٍ في الطريق.

 

15 /4 / 1997   فايله

>>