مرآة الأعمـى

 

في البدء كنتُ أشكُّ بسلامةِ ذاكرتي ولكن حينما استعدتُ الأمكنة والأحداث بدأ الضبابُ ينقشع شيئاً فشيئاً عن صورتهِ حتى ارتسمتْ أمامي واضحةً بكل ملامحها وإن كان الشيبُ الذي طغى على شعرِ لحيته وشعرات رأسه القليلة جعله يبدو أكبر سناً مما أحسبُ ولكنه هو عينه ، ذلك الرجل الذي عرفته أكثر مما يظن ، بل أكثر مما يعرف هو نفسه ، ولم تعد النظارتان السوداوان اللتان تغطيان عينيهِ حجاباً يفصله عني ، ولكن لِمَ يرتدي نظارتين ؟ أهو أعمى ؟ أم أنهما للتمويهِ الذي اعتاد عليه منذ عرفته ، فقد كان لا يفارقه وهمٌ بأن أعداءً يتربصون به ؟   

  " الواقفُ ضالٌ وإن لم يبرحْ مكانه "

تذكرتُ العبارةَ التي كان يرددها مزهواً  كلما بدأ سفّودُ القلق يحرثُ في رمادهِ ويحثّهُ على الرحيل فيغيبُ حتى نحسبه رحل رحلته الأبدية ، لكن وعلى غير موعدٍ يبزغ أمامنا كأنه خارج من شقّ في الأرض أو شرخٍ في جدار وحينما كان يرى البرودَ في العيون التي اعتادت غيابه وظهوره المفاجئ يشيح بوجههِ بكبرياء فارغة مردداً بفظاظةٍ ونزق عبارته المشهورة " ليش التريده الروح شوفته بعيده "  وكأنه عاد من رحلة تنقيبِ عن شخصٍ لم يولدْ بعد وهو الواقف الضالعُ في المتاهة .                                                                   

كان يقفُ على الرصيف بعودهِ الناحلِ وملابسهِ الفضفاضة متكئاً على جدار الفندق ، محدقاً إلى نقطة بعيدة في الفراغ ، مستسلماً لشرودهِ المعتاد ، يحسبه العابر شحاذاً وإن لم يضع أمامه طاسةً أو قبعةً ، وكدتُ أحسبه كذلك لولا معرفتي بهِ فهو لا يستسلم لغدر الزمان بسهولةٍ كما يفعل آخرون ولم يكن غبياً كي يكون شحاذاً في بلاد ( البخل ) ، ألم أصادفه قبل خمس سنوات في بلاد ( السعادة ) وقد كان يبدو راضياً بما هو فيه تبدو عليه علاماتُ الراحة والهدوء وإن لم يكن قد تخلص من نزقهِ وتذمرهِ من خلقِ الله .                              

كانت المرة الأولى التي لم يستطعْ الإفلات من قبضةِ حصاري له فقد التقيتهُ مراتٍ عدة وفي جميع البلدان التي أقمتُ بها ، فكان في كل مرةٍ يحاولُ الهربَ من نظراتي وحينما أحاصره كان يتأففُ مطلقاً عبارته التي يدرك بأنها تستفزني وتثير نفوري منه ولكن هذه المرة جاء بنفسه إلى الفخ ، فبينما كنتُ كعادتي حينما أسافر بالقطار منهمكاً بقراءة كتاب ، ايقظتني كفّ الجالس جنبي عند النافذة وحينما رفعتُ رأسي نحوه والتقتْ نظراتنا مختصرة ثلاثين عاماً من المطاردة والعداء ، أدركَ الورطة التي أوقع نفسه فيها ، ولكي يستعيدَ ترفعه طلب مني بلغةٍ دنماركية ركيكةٍ عودَ ثقاب ، أشعل سيجارته ثم ناولني القداحة دونما النظر إلي وأشاح بوجهه نحو نافذة القطار .                                                                            

- حسبتك قد متَّ في إحدى الحروب ! 

قلتُ ( مستفِزاً ) على الرغم من أني التقيته بعد انتهاء الحروب ، وحينما لم يجبني أضفتُ : 

- ألم تكن جندياً في الفرقة المدرعة الثالثة على جبهة عبادان التي أبيدت في ليلة السادس والعشرين من عام 1981؟ كنتَ أسيراً إذن !!؟                                              

لم يجبني ، مكتفياً بإبرام شفتهِ علامةً على الإمتعاض واللامبالاة فوجدتها فرصةً طيبةً للإنتقام منه ، فللحق أقولُ إني أكرهه، وغرورهُ الفارغُ يثيرُ في نفسي شهوة التشفي والاستفزاز لذا فقد تفتحتْ تلك اللحظة موهبتي بأسئلةٍ تـنكئ جراحه التي ربما كان يظن بأنها أُدملت بفعلِ السنوات الطويلة أو بانتقاله إلى بلدٍ لا يعرفه فيها أحدٌ ، ولكن سوء حظه قاده إلى مقعدٍ جنبي فبادرتهُ بسؤالٍ أعرفُ ثقل وطأتهِ على نفسه وبحيادٍ أشد برودة من شتاء الدنمارك :             

- أما زلتَ تكتبُ شعراً  ؟                                                                   

هبّ واقفاً راكلاً بساقهِ الكرسي بغضبٍ متجهاً نحو بابِ العربة تلاحقهُ سهامُ أسئلتي التي أصابتْ قِربةَ صمتهِ فاندلقَ غضبه المكتوم وحقده الملتهب ، وما أن توقف القطارُ في أول محطة حتى لمحتهُ يهرولُ مسرعاً داساً جسده في رمالِ الزحام فأسمع صدى صوتهِ وهو يرددُ"  " ليش التريده الروح شوفته بعيده " بينما ظلت ذاكرتي تعيد شريط تلك الليلة التي أشعلت نار حقدهِ .                                                                                       

إتكأ على المنصةِ بكوعيهِ ناقراً المايكرفون بطرفِ سبابتهِ وحين تأكد من سلامته أخرج بتأنٍ مفتعلٍ رزمةَ أوراقه ، انشدتِ الأنظار إليه فازدادَ غروره وبعد لحظاتٍ من الصمتِ قرأ عنوان القصيدة : 

  (حـرمـلـه )

صدرتْ هـمـسـاتٌ خـافـتـة في القاعة بينما كان الشيخ الجالس خلفي تماماً يردد عبارة  " لعنهُ الله " ، انتظرَ قليلاً ثم أنطلقَ صوته بحماسٍ وارتجاف :                                      

- " ذبحوا القصيدةَ وهي عطشى                                                             

     فحملتُ من دمها قليلا

     ونثرتهُ

     اصطبغَ الفضاءُ

     ولم -

 ارتفع لغطٌ في القاعة ربما حسبهُ تعبيراً عن الإعجاب وحسبتُه كذلك في بادئ الأمر أو أن الحاضرين أدركوا بقية القصيدة لوضوحِ الإشارة ، إلا أن الأمر لم يكن كذلك فقد تحول اللغط إلى صرخاتِ احتجاجٍ وسخرية واطلاق عبارات التهديد ، ترك البعض مقعده متوجهاً نحو المنصة وقد شدوا قبضاتهم باتجاه الشاعر ، ولولا تدخل بعض العقلاء وزملائه الشعراء الذين شاركوه في تلك الأمسية لذبحوه إسوة بقصيدته العطشى .                                     

وأخيراً ها هو الآن يقف أمامي بعودهِ الناحل متكئاً على جدار الفندق محدقاً إلى نقطة بعيدةٍ في الفراغ مستسلماً لشروده المعتاد ، مرتدياً نظارتين من عتمةٍ مطوحاً بذراعيه القلقتين  في الفضاء كأنه يهمّ بالطيران أو يهشُ بهما على اليقين .

لا أدري لماذا شعرتُ هذه المرة نحوه بالشفقة أو الحب ، ربما كان حقاً يبحث عن شخصٍ لم يولدْ بعدُ أو يشتاق لرؤيةِ ما لا يُرى في المكان والزمان ، ربما ضاقتْ به الأرضُ ونفدتْ قدرته على التآلف مع الآخرين فلم يعد يرى من الغابة غير الأعداء الكامنين وراء كل شجرة يوتّرون أقواسهم باتجاههِ كما ذبحوا من قبل قصيدته العطشى . عبرتُ الطريق إلى حيث يقف بخطواتٍ وئيدةٍ ، ولكي أمنحه حرية اختياري صديقاً له ، أعطيته أمرَ المبادرة فرحتُ أقطع الرصيف جيئةً وذهاباً محاولاً لفت أنظاره إلي ، وكأنه أدرك ما يدور بذهني  فأدار ظهرَهُ إلى الشارع وهو يرددُ بنزقهِ المعتاد :                                                            

 " ويتخاطف وي العين الماتريده " 

حتى غابَ في جوفِ الفندقِ القديم                    

 

 25/6/2000  فايله

 

>>