الشاعر حميد العقابي يروي ذكرياته ليستدرج سيرة العراق  وشجونه

 

الشاعر والكاتب العراقي حميد العقابي يعرّف كتابه الجديد (اصغي الى رمادي) (دار الينابيع للنشر - دمشق - 2002) بأنه (فصول من سيرة ذاتية), وهو بذلك يشـير منذ البـداية الى علاقة النص المباشرة, بأحداث واقعية وحقيقية عن حياة كاتبه, ويشير في الوقت ذاته الى انتقائية اختيار تلك الأحداث, اي ان الكتاب مشاهد من تلك الحياة, هي بالتحديد المشاهد التي تجمع في ثنايا سطورها حياتين: خاصة بالكاتب, وعامة تتصل بشجون وطنه العراق وهمومه, وتلقي ضوءاً على التفاصيل اليومية التي لا تظهر عادة في عناوين الأحـداث الكبرى, وملفات القضايا السياسية العامة.

إنها محاولة جديدة لقراءة الحدث العام من خلال انعكاسه المباشر في الروح الفردية, محاولة يكتبها شاعر بانتباه الى اهمية ادب السيرة الذاتية, خصوصاً في زماننا الراهن, حيث انحسرت الى حدود بعيدة اهمية الرواية الكبرى, ونعني بها المطالعات النقدية المتصلة بهذه الحرب او تلك, او حتى المكرّسة لهذه الحقبة السياسية أو تلك ايضاً, في حين صعدت وتصعد في صورة متزايدة المقاربات الذاتية, الخاصة والفردية, بما تمتلكه من صلات مباشرة بمشاعر الناس وبوعيهم الذاتي, وأيضاً - وهذا هو الأهم - بعلاقة الأحداث الكبرى والعامة بتشكيل الوعي الفردي أولاً والجماعي ثانياً, في زمن عربي يفرض الحاكم - الفـرد على المجموع الشعبـي كله, اشكال (التطور), ومسارات الوعي, الذي هو بالنتيجة - وفي ظل ظروف شاذة - وعي مشوّه, يتشكل تحـت سياط القمع, وفي ظل برامج التسلط والقهر.

حميد العقابي, إذ يكتب فصولاً من سيرته الذاتية, يتوغل عميقاً في الجزئيات الصغيرة, والتفاصيل التي لا تكاد ترى, أو انها لا تلحظ بالعين المجردة, في حين تتجسد قوية وواضحة بالحس والشعور, فتصبح هي الأساس, وهي تفاصيل وجزئيات تتجاوز اثرها المستقل, إذ تشكل مجتمعة حياة بأكملها.

يقول العقابي في وصف المثقف المقهور: (يقرأ (قصة الحضارة) لوول ديورانت نهاراً, وليلاً يقرأ على ضوء الفانوس قصة (عشيق الليدي شاترلي). والغريب في هذا الكائن انه ما إن يركن الكتاب جانباً ويقف في الطابور لاستلام حصته من البيض او الزبد حتى يتحول سلوكه الى سلوك نمر او ضبع, فتراه مخاتلاً متحفزاً كي ينشب اظفاره بوجه الكائنات الأخرى, كأنه يحن الى طقوس بدائيته, أو ربما انتفاء دور الزمان والمكان البدائي يساهم في محو الذاكرة ومساحة العقل البشري فيعود منقاداً الى الغابة على رغم تجربته ووعيه).

في الفقرة السابقة, نقف على وصف بسيط, وإن كان حاداً, وبالغ التوتر, لحالي المثقف العربي, حال الوعي والشغف بالقراءة وما ترتبه من سموّ على الرغبات الصغيرة, وحال حشره في جحيم القمع اليومي ودفعه بقسوة الى التنصل شبه الكامل من وعيه وثقافته, وإجباره على العودة دفعة واحدة الى البدائية, حيث عبودية الغرائز الأولى وضرورات الخضوع لها, في مسعى لدفع هذا المثقف الى اعادة النظر في اولوياته, والى تبهيت قيمه الكبرى ومثله الإنسانية التي يرى بأم عينه ضعفها وخوارها امام جبروت الغرائز الأولى وطغيانها.

وهذا المشهد الذي يقدمه حميد العقابي يستمد قوته اساساً من بساطته, ومن تخليه عن الموضوعات الكبرى, وتكرّسه للمقاربات المباشرة للأساسيات البسيطة, حيث الإنسان المجرد, عارياً, ومن دون زركشة أو تزيين, وحيث آلة القمع تتحول الى برنامج حياة, بسيط وعادي, يتحول مع الأيام الى صورة الحياة ذاتها, وإلى كيفيات عيشها باستجابات تلقائية و(عفوية), تعيد هي العادة وهي الدائمة والمستمرة.

هذا التشوه سوف نجده يأخذ صورة كاريكاتورية, في حكاية المعتقلين الأكراد, الذين (على رغم حقدهم الواضح على العرب والذي ما انفكوا يصرحون به علانية من خلال احاديثهم أو سلوكهم الانفعالي العدائي في اغلب الأحيان, فقد استبدلوا اسماءهم الكردية بأسماء عربية يتنادون بها بأصوات عالية وبلغة عربية فصيحة, فكانوا يثيرون السخرية حين يتخاطبون بجمل اقتبسوها من كتب التفسير القديمة, او مما خزنته ذاكرتهم من المسلسلات التاريخية مثل (عمت صباحاً يا أبا قتيبة, عمت مساء يا أبا بلال, لله درك يا أبا عبدالرحمن) ولن أنسى وجـه كاكه نوزاد الغاضب حين خرج من خيمته صارخاً (هسهس الحـق, هسهس الحق), مشيراً الى أبي عبدالصمد الذي سرق من خيمته قبضة من الشاي).

(أصغي الى رمادي), مشاهد مقتطعة من ذكريات الحروب مرة, ومن حياة الناس في العراق مرات اخرى, والكاتب في هذه وتلك يقدم شهادات تجمع بين المذكرات الحقيقية وبين فن القص ولغته, وما يحمله من سرديات, تذهب الى حدود استقصاء البداهات الصغرى, في محاولة لرؤيتها في مرآة القمع, وتحت سياط التعذيب, فإذا هي بداهات المأساة وقد اخذت لبوس العادية, وتمنطقت بمظاهر (أليفة), إذ هي سرقت ملامح الحياة, واستعارته لوجهها البشع, على امل تجميله, أو في الأقل, على امل جعله محتملاً وقابلاً للاستمرار. فصول الكتاب او بالأدق مشاهده, تتجول في أزمنة متعددة, وفي جغرافيا مختلفة, من بلدة الشاعر الصغيرة (الكوت), الى معسكرات اللجوء العراقي في ايران, وبينهما مشاهد الحرب العراقية - الإيرانية بكل ما فيها من دموية وموت, وبكل ما تركته في مخيلة الكاتب وذاكرته من صور الفقد, ومن مرارة الأسى والخوف.

وفي هذه المشاهد نرى الموت, بطلاً حقيقياً للأحداث كلها, ولنقل انه اليد الجبارة التي تحرك خيوط اللعبة وتعبث بمصائر الجميع, وفي واحدة من حكايا الكتاب المؤثرة, ويروي حميد العقابي قصة اللاجئين العراقيين مع العقارب في المعسكر الإيراني وانشغالهم بمطاردتهم, بل ورعبهم من خطرها, حتى يكتشف شاب كردي لعبة غريبة تنتشلهم من حالهم: (كان الشاب الكردي يطارد عقرباً ثم يحاصرها بدائرة من نار فتحاول عندها العقرب اختراق محيط الدائرة من نقاط عدة إلا انها تصطدم بجدار النار فترتد الى داخل مساحة الدائرة, وحين لا تجد مفراً وتيأس من فك الحصار عنها تقف عند المركز ثم ترفع نصفها الأمامي وتغرز ابرتها في جسمها وتموت). لعبة تأخذ وقت اللاجئين واهتمامهم فلا يتوقفون عن مزاولتها إلا اثر حادثة مهندس تركماني احرق الخيمة على نفسه ومات.



الشمعة والمرأة

الفصل الذي يحمل عنوان (شمعة), يكرّسه حميد العقابي للحديث عن امرأة خاصة, بكل ما توحيه كلمة الخصوصية من معان, فيروي جوانب من حياة هذه المرأة الاستثنائية, التي يرتبط وجودها بوجود الحي كله, وهو إذ يروي تلك الجوانب ينجح في نزعها من خصوصياتها الفردية, ويقدمها في نسيجها الاجتماعي الشامل, فتبدو (شمعة), في هذه الحال تكثيفاً لوعي الناس ومعاناتهم, وهو فصل يضيء جوانب من كيفيات تعامل السلطة مع الناس, وكيفيات من تعاطي الناس مع الشأن العام, اين تبدأ الجرأة وأين تنتهي, وأين تقع الشخصية الشعبية, في سياق ذلك النسيج الاجتماعي. وبمعنى ما فإن حميد العقابي في فصله الجميل (شمعة) يقدم لوحة بانورامية للقاع الاجتماعي, حيث يتأرجح الوعي بين عوامل جذب كثيرة, سواء في العلاقة مع السلطة, او في فهمه لموضوعة الشرف. اجمل ما في هذا الفصل هو ذهابه الكلي نحو الواقعة الشعبية كما اختزنتها الذاكرة, وإعادة تقديمها في لغة سردية بسيطة, ولكن من دون ان تفقد تلك السردية معادلها الصحيح من خلال ربطها المباشر, بالإطار التاريخي والاجتماعي العام. فالجمع بين الواقعة الحقيقية بما تحمله من عناصر الدراما, وبين الإطار التاريخي - الاجتماعي يمنح الكتابة جاذبية خاصة ويدفع بالقارئ الى تأمل اعمق في ما حدث, خصوصاً أن هذا الجمع يوصل الى استخلاصات سياسية واجتماعية قد لا تتمكن من الوصول إليها الكتابات السياسية بما فيها من فجاجة وتقريرية, تختفي هنا, لتصعد مكانها حقيقة الإنسان, بضعفه وقصور رؤاه حيناً, وبجرأته ونفاذ بصيرته احياناً اخرى, في سياق جدلية تعترف للإنسان بالقوة والضعف, ولكنها تؤمن - من دون خطابية مباشرة - بحتمية انتصاره, وبأنه الأصل والأساس.

شخصية (شمعة) في هذا الفصل, تبدو مزيجاً من الغموض الذي لا يكتشفه الناس, عن اصلها وماضيها, والوضوح الجارح الذي تشكله تصرفاتها وممارساتها, وأيضاً - وهذا هو المهم - احاديثها ومواجهاتها الصريحة مع السلطة ورموزها القمعية: (كنت عند مدير الأمن, كان حبلان). ضحك الجميع بخطأ من مشاعرهم الآنية, لاعنين شمعة التي لن تتغير, ولأنها أدركت ان الجميع يتحاشى سماع كلمة (الأمن), راحت تتمادى بفضح جبنهم, فدوت ضحكتها الرجولية مضيفة تحدياً آخر للوجوه الصامتة امامها كتماثيل حجرية: (جاب خنزير).



حكايات ومواقف

فصول حميد العقابي من سيرته الذاتية, تحمل مثل اية سيرة اخرى, ملامح اساسية من حياته, بما في ذلك المكونات الرئيسة لهذه الحياة, لا من خلال عرض مباشر ولكن من خلال حكايات ومواقف مرّت به, خصوصاً في مراحل الطفولة والمراهقة والشباب الأول, والكاتب - وإن مرّ عليها مروراً خفيفاً بعض الأحيان - أوصل إلينا في لغة حميمة, مكثفة ومقتصدة, كيف يتشكل الوعي في ظل سلطة القمع وتحت وطأة المحظورات الكثيرة, سواء تعلق الأمر بالموضوعات العامة, أم طاول القضايا الإنسانية الفردية بما فيها العشق والعلاقة بالمرأة, وهي موضوعات تبدو لنا من خلال فصول السيرة وقد وقعت هي ايضاً في دائرة الممنوع والمحرّم, وكان لها شأن كبير في تشكيل نظرة صاحب السيرة الى الحياة والمستقبل.

إذا وضعنا كاتب السيرة جانباً, وحاولنا ان نبحث عن بطل لفصولها فإن المنفى هو من دون شك البطل الحقيقي الذي يلقي بظله الكثيف على الأحداث, ويدفع باتجاه هذا الفعل أو ذاك, وهو منـفـى لا نـراه مستـقـلاً بـذاته, قدر ما هو مرتبط في صورة مصيرية بعاملين رئيسين, فعلا كثيراً في حياة العراقيين: القمع والحرب. ففي هذين العنوانين تقع التفاصيل كلها, واستناداً إليهما يمكن أي كاتب عـراقي ان يقـدم شهـادة غنية عن حياته, لأنه سيقدم في شكل أو في آخر جزءاً من صورة الحيـاة في عـراق اليوم.

حميد العقابي في سيرته يعيد الانتباه الى هذا الجنس الأدبي, الذي قليلاً ما يلتفت نحو الأدباء, وهم اذ يفعلون يقدمون شهادات اكثر نصاعة وأشد حميمية من تلك المذكرات واليوميات التي اخذ السياسيون والقادة يغرقون السوق بها, في محاولة من جانب كل واحد منهم لرسم الأحداث الماضية من وجهة نظر الدفاع عن شخصه اولاً, وعن حزبه او جماعته ثانياً, من دون ان يعني ذلك الاهتمام بالحقيقة.

راسم المدهون (30/4/2002 )  الحياة

>>