راحــلا بين الوجود والعدم

حميد العقابي في سيرته الذاتية

يصغي إلى رماده

 

في نزوعه لأن يقترب من تفاصيل حياتية مؤثرة لا يحاول الشاعر العراقي حميد العقابي وهو يكتب "أصغي إلى رمادي – فصول من سيرة ذاتية" التماهي مع موقع الحكيم الذي يروي لمريديه الحكم والعبرات التي خلص إليها وهو يمضي إلى أرذل العمر... بل إنه وعبر اعتراف صريح بالحياة ذاتها لا يحاول شيئاً سوى أن يكون واحداً ممن عاشوا الحياة دون أن تخالجه أي من تضاعيف الندم على ما جرى فهو يردد ومنذ البداية مقولة الفيلسوف الدانمركي سورن كير كغورد:

" أن تتزوج تندم، وإن لم تتزوج تندم كذلك

إن تنجب أطفالاً تندم , وإن لم تنجب أطفالاً تندم كذلك

 إن تعش تندم، وإن لم تعش تندم" ..! ( ص 9 )

فعل الندم وبوصفه حقيقة واقعة في متوالية الاحتمالات هذه يحمل في ذاته نفياً لتحققه طالما ارتبط بوقوع الفعل في الحياة.. فأي ندم هذا الذي يجمع الفعل ونقيضه في آن معاً..؟

  يحق للقارئ أن يسأل ههنا طالما افترض مسبقاً أنه سيقرأ فصولاً في السيرة الذاتية لا كتاباً في عقابيل الندم..! ولعل الإجابة عن السؤال لا تتحقق في اللهاث وراء التفاصيل مما يسرده الكاتب –وهو شاعر ههنا- من وقائع حياتية بل في تمثل الفكرة الرئيسية من فعل السرد للتفاصيل الحياتية وأقصد الفعل العام الذي أسس للجنس الأدبي الذي يشمل "السيرة الذاتية، الاعترافات، المذكرات" وهذه الفكرة لا تتعلق بالرغبة في الخلود وتكريس الذات فقط بل أنها تتشاكل مع كل اتجاهات الذات في أن تقرأ نفسها والآخرين في آن معاً..

كاتب السيرة الذاتية لا يبحث في ذاته فقط بل أنه يبحث في الوقائع والمجريات بكل الانتحاءات والتفاصيل وهنا قد تتحول كتابة السيرة الذاتية إلى كتابة سياسية (مذكرات القادة ) وكتابة فنية (حياتي في الفن لستانسلافسكي) وكتابة في الاقتصاد (مذكرات سمير أمين) وأيضاً..  و أيضاً , وربما كتابة أشياء أخرى ومتعددة كتعدد مناحي الحياة..! !

فإذا كان لكل اتجاه في الحياة مؤداه.. هل نتوقع من الشاعر وهو يكتب سيرته الذاتية اندماجاً في المبنى الشعري وصولاً لأن تكون كتابته شعرية صرفة؟

يجيب حميد العقابي في مقدمته للكتاب بالنفي طالما أنه لا يستطيع إحصاء الخسارات التي سببتها له عبارة إنه شاعر فقد خسر المستقبل والجسارة التي تجلب للذات وفشل في كل المهن وارتضى بعزلته بعد أن خسر الأهل والوطن متعللاً ببيت شعر قاله أبو الطيب المتنبي (ص8)

الشعر إذن هو جلاب الأذية في التفافه المستديم على تفاصيل حياة الشاعر ,  ولكنه بالتأكيد ليس مدعاة للندم.. إنه يتساوى مع الحياة ذاتها .. وهنا سنعثر وفي الكثير مما يرويه حميد من تفاصيل على أشياء حميمة تقارب في ذاتها ودون لغة تنطق بها الشعر  , فهو يدوزن قلقه بالمسبحة كما يبحث بلهفة عن عدوه المفترض عبد المجيد زاده (الإيراني الذي وجد الكاتب في بيته أثناء الحرب كتابة مئة عام من العزلة مترجماً إلى اللغة الفارسية) وبعبارة أكثر وضوحاً إنه يبحث في المسرود إلى آخره عن تفاصيل تفيد إلى كسر رتابة إيقاع السرد والخلوص والنجاة إلى صفة أشد إنسانية مما تفرضه الحالة الحياتية.. !  وفي هذا الاتجاه نراه يقرأ في الحياتي زوايا غير ملحوظة من الآخرين قد تصل إلى درجة التأويل القسري للواقع ولكنها بالتأكيد تثبت إمكانية الاكتشاف من خلال التحديق أكثر فأكثر في المعتاد اليومي وهكذا يتحول بائع المسبحات الذي يجول في شارع الصالحية  بدمشق إلى علامة دالّةٍ بعد أن كان مجرد بائع نسمع صوته دون أن نكترث بصورته : " كانت صورة بائع المسبحات هي شمعة تأملي، ربما هي الصورة التي جئت من أجلها، ربما هي الإطار الذي كنت قد وضعته (واهماً) للشرق الذي كنت أخفيه في داخلي عشرة أعوام، ربما هو الحنين إلى اللحظات الجليلة التي أتمناها، ولكن هل أنا في هذه اللحظات هو أنا؟ أم أني أبحث عن خاتم رميته في لحظات عبث؟ أم تراني أبحث عن خاتم الوهم لتبرير ضعف القدرة على دوزنة أوتار نفس مقطوعة عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها، هذا الوهم الذي علمني لعبة الهرب من المأزق ومن مواجهة أي معضلة" (ص19)

الشعر الذي يقدم به حميد لبعض فصوله مبثوثاً بينها يتقاطع مع الخطاب الفلسفي الذي يتبين للقارئ وهو يتجول عبر التفاصيل باحثاً عن خيط يجمع بين هذه الفصول التي تتناوب بين الواقعية والخيال.. فإذا كانت الأسطورة المتحولة من الإرث الشعبي إلى مدار السرد الذي يتبناه هي مجرد تفصيل فإن ما تحفل به كشخصية من لحم ودم من مقولات لا بد سيعيدنا إلى التدقيق في اختيارات الكاتب لمواضيعه ولشخصيات سيرته وهكذا تغدو الجدة شمعة القابلة الحكيمة عرافة ربما تقابل في الإرث الأسطوري شخصية العراف تيريز ياس فهي ترى ما لا يراه الآخرون ولعلها تنطق بحكمة مقابلة وهي في الآن ذاته تحمل عيناً واحدة وتقول:" أيها الأغبياء من لم يعرف يوم ولادته لن يعرف مستقبله "، هذه العبارة التي اختلطت على حميد العقابي وهو يروي السيرة، لا يدل اختلاطها على شيء سوى اندغام الشخصية ذاتها بشخصيته هو:  " لا أدري إن كنت فعلاً قد سمعت الجدة شمعة تردد عبارة (أيها الأغبياء....) أم إن هذه العبارة من وحي مخيلتي، وربما قد تسللت إلى ذاكرتي من الحلم الذي رأيته تلك الليلة. " (ص98)

كتابة السيرة الذاتية وكما تتجلى بحسب حميد العقابي الذي يصغي إلى رماده وأيضاً بحسب مدلولات العبارة بحثٌ وربما شكلُ الرماد مبعثراً وقد ذرّاه الكاتب بيديه.. وهنا نتوقف ملياً أمام الشخوص الذين يستدعيهم الكاتب لا ليكونوا محض تفاصيل.. بل علامات ذات دلالة عميقة في السياق السردي .. احتراق هؤلاء الشخوص وتبعثرهم أيضاً يجعلنا نشكك قليلاً في جدية الواقع واختلاطه بالحلم وبهذيانات المؤلف.. فعادل العرس وهو  شخصية حقيقية جعل الكاتب من سيرتها فصلاً من فصول كتابه هو شريك أساسي في الرحلة إلى الفردوس المأمول وهو في الآن ذاته الهاجس المخيف الذي يلاحق الكاتب في انتظار مصيره المشابه كما يتبدى في السياق.. لقد مات عادل العرس , والشعر الذي كتبه الشاعر عنه ليس مرثية حقيقية بمقدار ما هو تأمل في احتمال المصير: ( الموت بعيداً عن مكان الولادة)..!! ا

 

لتقابل بين الشخصية المستدعاة كموضوع وبين كاتب السيرة يقود إلى السؤال المتكرر : هل السيرة بحث في الخارج عن الذات أم هي رحلة في داخلها يقول: " أمس زارني عادل في المنام فسألته عن أحواله وأحوال الناس هناك، عن الموت والآخرة.... تجاهلني كأني لم أكن بطل جميع رواياته. " (ص129)

إن  تتبع المسار السردي لدى حميد العقابي يدفع بالإجابة إلى منحى مختلف عما سبق فهو لا يعيد سرد حيوات الآخرين كما يتمثل المصير المشتهى بل إنه يقيم كياناً جديداً هو كيانه الشخصي ويدفع بالمتخيل (وهو هنا الكاتب وقد بلغ من العمر عتياً) لأن يعيد ارتكاب الحياة في المكان الغائب الحاضر ذاته وأقصد العراق وبلدته  الكوت بعد أن قضى الوقت الطويل هناك في المنفى  (وحيداً بلا أهل ولا أبناء)..

ومن هذا المنطلق الذي يفسح المجال للشاعر أن يختلي سردياً بنوازعه وأحلامه التي ضاقت بحكم التوالي القسري لعمليات الرحيل والبحث عن مأوى والهرب من الكوابيس المعّدية.. ! من ههنا لا بد سنتوغل مع حميد في احتكامه للسيرة كفن لا يقدم له السالف من ملامح حياتية بل أيضاً الدفق الشعري للأحلام في بعدها الآسر حينما تكون نوعاً من البحث في سبيل الحرية.. فالرحلة هي أن تجد كل شيء سوى الطريق " حيث كلما خطوت خطوة محت خطوتي أثر الخطوة السابقة ولكني لم أخف لأني عزمت على الرحيل بلا عودة أو ندم" (ص178) والموت هو في المنظور السالف رحلة أخرى لا يخافها الشيخ الذي يكونه المؤلف في رحلته المتخيلة   والتي تنتهي بإيقانه  ب "رحلة أخرى في حلم آخر" (ص212) .

 السيرة في "أصغي إلى رمادي" لحميد العقابي أشد احتكاماً إلى الشعر والحلم منها إلى النثر وللواقع وهي وإن كانت قد تدثرت بمعطفهما إلا أنها في الحقيقة تندفع ومن خلال التشابك الجميل بين الأجناس لتكون أكثر من كتاب سيرة وأكثر من مجرد نزوع الى أجناس أخرى..

علي سفرملحق " ثقافة" جريدة الثورة السورية الاحد 29 / 09 /2002  

>>