دفتر التلفونات القديم

 

في ساعةٍ متأخرة من ليلة أمس وقد استبدّ بي أرق ، حاولتُ أن أشغل نفسي بأي شيء فخطرَ لي أن أفتح الصندوقَ القديم الذي ركنته في زاوية الغرفة بعد أن استقر بي التطواف أخيراً في هذه المدينة النائية . نهضتُ بحركةِ فتى ورحتُ أقلّبُ محتويات الصندوق فتطاير من أشيائه غبارُ الزمن ، لا أريد للّغة أن تدفعني إلى قول أشياء لا أعنيها فأقول مثلاً بأني فوجئتُ بذلك الدفتر الصغير الذي أضعته منذ وقت طويل حيث لم تعد المفاجأة تعني لي شيئاً . أخرجتُ دفتر الـتـلـفـونات الصغير ورحت أقلّب أوراقه البالية بتأنٍ وبمشاعر محايدة . فوجئتُ ( عـفـواً لم أفاجأ ) بأن جميع الأسماء التي وردتْ في الدفتر كانتْ لأصدقاء ماتوا ومن بينهم مَنْ انقطعتْ عني أخباره منذ وقت طويل ، خطرتْ على ذهني فكرة أن أتقصى أخبارهم فوجدتُ  بذلك تسليةً أقتل بها بعض الوقت وأطرد القلق . ضغطتُ على أزرار التلفون فسمعت إشارة تدل على خطأ في الرقم . كررت المحاولة مع رقم آخر وفرحتُ حينما رن جرس التلفون . لحظات ثم جاء الصوت " ألـو " ، كان صوتاً أنثوياً رقيقاً فتلعثمتُ وهذهِ عادةٌ لاتزال تلازمني كلما تحدثتُ مع امرأةِ .                                                                      

         " سيدتي أنا فلان الفلاني أبحث عن صديق "

وقبل أن أوضح لها الأمر جاءني صوتها غاضباً : 

   " ألم تخجل لشيخوختك من هذه التصرفات الصبيانية "

وأغـلـقـتِ الخط .                                                                           

مرة ثالثة ضغطت على أزرار التلفون ونجحتُ هذه المرة فقد أجابني صوتُ شيخٍ مخمور فقلت لنفسي " أصبتِ هذه المرة " ، تـنحنحتُ مفتعلاً الوقار وقلتُ :

  " أخي ، أنا فلان الفلاني أبحث عن صديق .. "

وقبل أن أكمل جملتي قاطعني :  

 أرجوك ، أنا أتمتع اليوم بإجازةٍ ولا أستطيع مساعدتك في البحث عن أحد ، ولكني أستطيع التحدث معك قليلاً قبل أن يحين موعدك" 

" موعدي ! ؟ "

قلتُ ولكني تذكرتُ بأن الرجل مخمورٌ ولا يعي ما يقول فاستدركتُ :  

  "..   نعم ، نعم ، لم أستطع النوم هذه الليلة ، انتابتني هواجس وكوابيس كثيرة "

لكنه راح يقاطعني كلما حاولتُ توضيح القصد وكأنه متمرس بالإفلات من قبضةِ المعنى ، إلا أني طمعتُ بأن أكسبه صديقاً جديداً فاقترحتُ عليه أن نلتقي لنكملَ حديثنا فجاءني صوته بكبرياء وتهذيب : 

" أجل ، أجل ، بالتأكيد ، سأزورك في غرفتك بعد غدٍ ، كنْ على استعداد لاستقبالي "

وقبل أن أنطق بكلمةٍ أضاف بثقة :                                                          

  "  لا تخفْ فالمسألة لا تستغرق سوى بضعٍ ثوانٍ ثم تجد نفسك في الضفة الثانية "

خاب ظني بكسبهِ صديقاً لأنه لا يعي ما يقول وألا كيف يعرف عنوان غرفتي ومن هو حتى أستعدّ لاسـتـقـبـالـهِ ، ارتسمتْ أمامي صورته ، كانت تدلّ على رعونةٍ وغباء فكرهتهُ وأردتُ أن أنهي المحادثة بلطفٍ فسألته عن اسمه ، جاءني صوته مبحوحاً وبنبرةٍ متعجرفة :            

"  لا تكن عجولاً ستعرف اسمي حينما نلتقي قريباً  "

وأغلق الخط .

ارتجفتْ يدي وأنا أضع سماعة التلفون ومرت دقائق وأنا أفكر بهذا المشهد الساخر وأصداء عبارة الرجل الأخيرة " إلى اللقاء بعد غدٍ " تتردد في أذني حتى شعرتُ بكف النوم تغلق عيني.

 

19/7/1997 دمشق

>>