بعـد الطوفان

 

صرخَ الواقفُ خلف الدفـّة ورقص البحارةُ فَـرَحاً حينما بدت اليابسة ، صرختِ الطيورُ ، النمورُ ، الصراصيرُ ، صرخ المحتضرون وعادت فيهم الروحُ ثانيةً ، أثـنى البعض على حكمةِ القبطان وصبره وأعتذر الذين سخطوا عليه في لحظة يأسهم وجزعهم ، وانـشـدّت الأبصار إلى الجـزُر التي بدأتْ تظهر واضحةً كلما اقتربنا منها فراحت الشفاه تتمتمُ بدعاء الشكر ، وكلمات التملق الرخيصة تكال إلى قائدنا الذي تسلم قيادة السفينة فبدا خلف الدفّة مزهواً بنفسه كأنه يعيد خلق الطبيعة من جديد . حينما توقفت السفينة عند أول مرسى ، خرج الـقـبطان من الـقـمـرة مخموراً يتبعه أولاده الثلاثة وهم يتهامسون في ما بينهم ، وبعد أن أنهينا صلاة الشكر بإمامته ، اتجه إلى حيث تكدست النساءُ على بعضهن مـلـتـفـات بعباءاتهن مثل قـنـافـذ ، تطلع إليهن بعينيه الحمراوين من شدة السكر فتراجعتْ أجسادهن إلى الوراء متوجسات خيفةً ألهبتْ فحولةَ القائد العائد منتصراً من معركة المصير  ، أشار بسبابته إلى صبيّةٍ خجولة كانت تقرأ في كتابٍ قديم فتخاطفتها أذرع مفتولة العضلات ، حاول أحد الرجال أن يعترضَ على مشيئة القائد إلا أن نظرات الرجال الحادة جمّدت الكلمات قبل أن ينطقها لسانهُ فأذعن صاغراً لحكمةِ المنقذ ، وسرعان ما نسي الغاضب اعتراضه عسى أن تكون هذه الصبيّة آخر قربان يقدم لإلهِ البحر الأرعن  . اصطفَّ الناجون كردوساً كحزمةِ حطبٍ ومر القائدُ من أمامنا بخيلاء ثم أطلق ضحكةً رعناء فارتعب البعضُ كأن ناراً أضرمتْ في هشيم الأجساد المتصلبة ولكن ( ولحسن الحظ ) غيّر القائد خطته ليس عطفاً بالتأكيد ولكن ربما الرعب الذي أشاعته نظراته الصارمة  في وجوهنا أشبع نزوته فأدار ظهره إلينا متطلعاً في وجوه النساء المصطفّات كراديس أمامنا ، كنّ أكثر منا عدداً حيث أن الكثير من رجالنا أنتحرَ أو أعدم بسبب تمردهِ على الـقـيـادة ( هكذا أشيع أو ربما كانت مؤامرة من قبل القبطان نفسه لإبقاء عددٍ أكبر من النساء في حوزته ) . راح الكاتب العجوز ينادي بأسمائنا كي يتسلم كلّ منا وثيقة نجاتهِ . وبالـقـرعةِ ، كان نصيبي : نمرين وعاهرةً .

 

***

 

  كان الوقتُ ظهراً حينما هبطتُ على أرض الجزيرة حاملاً حـقـيـبـة متاعٍ صغيرة تتبعني المرأة ( التي سأكفُّ من الآن عن نعتها بالعاهرة ليس لأن ذلك كان في زمان ما قبل الطوفان ولكن لأنها ستكون زوجتي وأم الكائنات الجديدة التي ستورث الأرض بعدنا ) . حللتُ وثاق النمرين اللذين ما أن تحررا حتى راحا يدوران برقصةِ غرامٍ غريبة ، الـتـفـتُّ إلى المرأة التي أدركتْ مغزى ابتسامتي فأشاحتْ بوجهها بغضبٍ جعلني أندمُ على رعونتي وتهوري ، الندم الذي تحول إلى غضبٍ حينما رأيتُها تبصق على الأرض بأنفةٍ وسخرية . جلستُ تحت عريشةٍ لايزال ماءُ الطوفان المنحسر يقطرُ من أغصانها الـمـتـشـابـكـة تاركاً للمرأةِ حرية أن تختار ملجأها وإن كنتُ واثـقـاً من أنها سـتـلـجـأ إلى ذراعيْ رجـولـتـي كي تحتمي بهما من صمتِ الليل وصخبِ المجهول .

استيقظتُ في منتصف الليل بعد همودٍ ثـقـيل ، وكانت المرأة أول فكرة خطرتْ لي فرحتُ أجوس المكان بحثاً عنها ، كنتُ أتخيلها عاريةً عند الجدول تطهّرُ جسدها من أدرانِ الماضيبضياء القمر وما أن أقتربُ منها حتى ترتمي بين ذراعيّ باكيةً ، طالبة العفو والأمان. جلستُ عند ربوةٍ تطلّ على وادٍ صغير متأملاً بخشوعٍ صمتَ الليل وذكريات الرحلة الطويلة ، وعند الفجر سمعتُ حركةً بين أشجارِ الغيضة القريبة فنهضتُ باتجاه الصوت واثقاً من خلو الجزيرة من كائن آخر غير المرأة والنمرين اللذين سيتحولان بقوة إرادة البقاء إلى نمرين نـبـاتـيـيـن ولو إلى حين هجرة كائنات أخرى إلى الجزيرة ، ومن بين الأشجار رأيتُ المرأةَ جالسة متكئةً بظهرها على جذع شجرة غليظ حاسرة الثوب عن ساقين بضين ، اقـتـربـتُ منها حتى وقفتُ عند رأسها ، كان مستغرقةً في حلمٍ لذيذ ويدها تتحركُ بين فخذيها متطلعةً إلى النمرين المشغولين بلعبتهما بجدٍ ونشوة ، مددتُ يدي ممسداً شعرها ورقبتها فتطلعتْ إلي بغضبٍ مستعر باصقةً على الأرض بنفور فظ . انسحبتُ إلى حيث العريشة بذهولٍ وخيبةٍمحاولاً تفسير سرّ هذا الغموض .

" الطوفان والسفينة والإبحار والجزيرة وأنا والمرأة والنمرين والذين تمردوا والذين خانوا والناجون ... كل ذلك كان مجرد لعبةٍ ساذجةٍ بيدِ صبي عابث ، ولكن أي حكمة وراء هذا الدور الغامض الذي أوكلَ إلى هذه العـاهـ ... ( عفواً ) المرأة ؟ "

رددتُ مع نفسي بحيرةٍ ويأس، ولأني لم أجد جواباً ولم أكن متحمساً إلى إعادة تجربتي الفاشلة قبل الطوفان لذا فأني قررتُ أن أطردَ هذه الفكرة من رأسي حتى لو توسلتْ هي بي ، وهكذا مع مرور الأيام وجدتني قد نسيتُ الفكرة تماماً ، نقضي النهار معاً في الزراعة وقطف الأثمار وفي الليل يتكورُ كل منا في كوخه ، عندئذ أُخرِج نساء مخيلتي الكثيرات وأدسّ فيهن كل

أعضائي المنتعظة لأعود بعد ذلك باحثاً عن جوابٍ لسؤالِ هذه اللعبة الغامضة ، وربما أقرأ شيئاً من كتاب التراتيل وربما خطرتْ لي فكرةٌ فدونتها علىحاشية الكتاب ، حتى اسودَّ الكتاب بسخام أفكارٍ وحكمٍ لن يقرأها أحد من بعدي.

ذات يوم وقد كنتُ أنوء بحملِ جذعٍ غليظ طلبتُ منها أن تساعدني فأبتْ وحينما رأتْ الغضب والاستنكار في عيني أشارتْ إلى بطنها فـسـقـطَ الجذع منكتفي وتدحرجتُ منهاراً من هولِ الصدمة إلىعمق وادٍ مظلم.

 

***

 

ثلاثةُ أمـورٍ أنا على يـقـيـنٍ من صحتها :

1 - حدثَ الحملُ بعد نزولنا إلى الجزيرة .

2 - لم أمسسها قط .

3 - لم يـتـسـلـلْ إلى إلجزيـرةِ رجـلٌ.

 

***

 

في هذهِ الليلة ، وقبل أن أدونَ هذهِ القصةَ الغريبة فكرتُ بثلاثةِ أمور :    

- أن أقـتـلـها. 

- أن أنـتـحر . 

- أن أتركَ الأمر لما تكشفه الأيامُ القادمة .    

 

 

(أوراق غير مؤرخة من دفتر محترق)

 

>>